ترجمة لكلمة الملكة رانيا خلال قمة صانعي القرار بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس امديست
الأولويات التعليمية العربية في القرن الحادي والعشرين
سعادة السفير [وليام] رو،
السيد [عبد العزيز] بلفقيه،
السيدات والسادة،
أشكركم على حرارة الاستقبال، وإنه لشرف كبير أن أكون بينكم اليوم.
يأتي انعقاد هذه القمة احتفاء بمرور اكثر من خمسين عاما على تأسيس "أمديست" وإنجازاتها المميزة، ولا أستطيع أن أحصي عدد الأصدقاء والزملاء الذين تأثروا بعمل هذه المنظمة، وفي نفس الوقت لا أستطيع التفكير بجامعة أمريكية رئيسية لم تستفد من الطلبة العرب الذين ساعدتهم "أمديست" للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية، وبالتأكيد هذا هو التعليم الحقيقي حيث بنت "أمديست" جسرا للتفاهم بين الثقافات والشعوب.
ولم تكن الحاجة لهذا الجسر اكثر إلحاحا مما كانت عليه في الشهور الستة الماضية، فنحن نعيش في وقت ندرك فيه أن المجهول مما لا نعرفه عن بعضنا قد يصبح عدونا الحقيقي. وقد تابعنا بحزن كيف يمكن للجهل أن يدمر عالمنا.
وفي هذه المرحلة الدقيقة يمكن للعالم العربي والولايات المتحدة أن يستفيدا من أشخاص يشهد تاريخهم بتفاعلهم الحضاري الحقيقي...أشخاص قادرين على تجسير الهوة ورأب الصدع وإضفاء اهتمام حقيقي واحترام متبادل. وبعبارة أخرى أشخاص أمثال الكثيرين منكم، وكلي أمل أن تكونوا فخورين بما قدمتم من عمل وأن تواصلوا عملكم هذا من أجل الجميع.
نلتقي اليوم لنتحدث عن التعليم في العالم العربي، وهذا الحديث اصبح اليوم اكثر أهمية من أي وقت مضى خاصة في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها حاليا، ولن نكتفي بالحديث عن أهمية التعليم فقط ولكن علينا التفكير فيه بعمق واغتنام الفرص المتاحة حاليا لتمكين وإلهام أطفالنا ومساعدتهم ليصبحوا مشاركين فاعلين في التنمية العالمية وتزويدهم بالأدوات والوسائل التي تمكنهم من تشكيل عالمهم.
اليوم أود القول أن اعظم التحديات لا تتمثل في الفجوة الرقمية أو التكنولوجية أو التباينات بين الدول النامية والمتقدمة ولا في الفروق الدينية أو السياسية التي تشكل بؤرة خصبة للكره والعنف.
إن تحدينا الأكبر يقع تحت كل تلك الأخطار وغيرها، انه "فجوة الأمل" التي بقيت تفرق بين شعوب العالم منذ الأزل وحتى اليوم...بين من لهم المستقبل ومن لا مستقبل لهم.
إن فجوة الأمل تبدأ عندما يحرم صغارنا من حاجاتهم الأساسية للنماء والتعلم والصحة والتغذية، ومن الأمهات المتعلمات اللاتي يستطعن نقل هذه القيم عبر الأجيال.
كما أن فجوة الأمل تتسع حينما لا تتوفر لطلبة المدارس الكتب والتقنية والدعم اللازم بما في ذلك المعلمين المؤهلين والمدربين على التقنيات والمعرفة.
حتى أن فجوة الأمل توجد عند الطلاب الملتحقين بالجامعات والكليات، لكنهم غير معدين أو مؤهلين لأي شيء، سوى التعليم عن طريق الاستظهار بدلا من تعلم مهارات التفكير النقدي والتحليل الذي يثري متطلبات الدراسة المتقدمة.
وعند سن الرشد تصبح فجوة الأمل عميقة يهوي فيها مستقبل الفرد والأسرة والمجتمع والأمة على حد سواء.
وحكوماتنا اليوم ملتزمة ببذل المزيد من الجهد والمال لإيجاد الطريق الطويل حول هذه الفجوة. ولكن الأشخاص المجتمعون في هذه الغرفة بإمكانهم المساعدة في العثور على طريق افضل من خلال تجسير فجوة الأمل ووضع أطفالنا على الطريق المستقيم للنجاح.
برأيي، يمكننا تحقيق ذلك فقد إذا استفدنا مما تعلمناه حول تحقيق النجاح.
لقد تعلمنا أن علينا أولا العمل معا - وأن نكون مرنين ومبدعين في تشكيل شراكات قوية تجمع ما بين القطاعين العام والخاص حيث تشير التجارب والخبرات أن خطى التغيير تكون أسرع واعمق أثرا حينما نستفيد من الموارد الفريدة التي تمتلكها مؤسساتنا، فالتنظيم والتواصل والتجهيزات مجتمعة هي مهارات تقود لنجاح الأعمال والمنظمات غير الحكومية، لذلك علينا تفعيل هذه الأدوات وتسخيرها لخدمة أنظمتنا التعليمية أيضا.
كما يتوجب علينا التطرق للمصادر التي يوفرها القطاع الخاص والمجتمع الدولي، فالقطاع الخاص يدرك تماما أهمية الاستثمار في التعليم من اجل إيجاد القوى العاملة المؤهلة والمستهلكين المرفهين، وبالنسبة للمجتمع الدولي فان المواطنين الواعين والمفكرين في كل أمة يضمنون تحقيق السلام والأمن العالمي.
وثمة حقيقة ثانية تعلمناها حول العمل الناجح وهي أن تقنية المعلومات تشكل قوة مضاعفة مؤثرة وفاعلة، فمهارات الحاسوب ليست مجرد مادة تعليمية نريد أن يتعلمها أطفالنا بل هي أدوات لتعليم أنفسهم وطريقة نوعية للمعرفة في مدارسنا ومناهجنا.
لقد ثبتت قوة التكنولوجيا كأداة لتعزيز وتسريع التقدم المرة تلو الأخرى، وقد أشار تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2001 حول التقنيات الجديدة، للطرق التي ساعدت من خلالها الاختراقات والإنجازات التي شهدتها العقود الأخيرة في حل مشكلات البلدان النامية بطريقة أسرع كثيرا من الدول المتقدمة من قبل، فقد استغرقت إنجلترا 1000 عام لتضاعف إنتاجها من القمح أربع مرات، وبالمقابل بفضل التقنيات الزراعية الحديثة تضاعف إنتاج العالم من الحبوب في غضون أربعين عاما.
إن تقنية المعلومات ستسمح لنا تحقيق مثل هذه القفزات النوعية في مجال التعلم، فلننظر إلى شبكة الإنترنت وما توفره من سبل للوصول إلى المعلومات في زمن قياسي، فنقرة بسيطة تؤمن سبل الاتصال بين المناطق الريفية والحضرية، والطبقات المتوسطة والفقيرة والمعلمين وقواعد البيانات الضخمة، ويمكن تكييف عملية تعلم مهارات الحاسوب واستخداماته لتستجيب لنقاط القوة لدى الطلاب ولتلبية احتياجاتهم المختلفة لتتلاءم مع مهارات التعلم واللغات المختلفة وفي نفس الوقت تضمن وصول هذه المهارات لكافة أفراد المجتمع.
وإنه لمن المذهل حقا أن نرى كيف تسهم الحواسيب السريعة في تسريع عملية التعلم، وشاهدت ذلك قبل فترة ليست ببعيدة في أحد مراكز المجتمع الجديدة لتعليم تقنية المعلومات في الأردن، حيث كان صبي صغير يستخدم الحاسوب بينما تجمع حوله أصدقاؤه ليشيروا عليه استعمال طرق أسرع وأفضل للقيام بإعداد بحثه، هؤلاء الأطفال- وحتى وقت ليس ببعيد- لم تتاح لهم فرصة مشاهدة الحاسوب.
وفي مراكز مجتمعية أخرى سنحت لي الفرصة للتحدث مع نساء كن يستخدمن الحاسوب لإتمام دراستهن. بينما كانت نساء أخريات يتعلمن المهارات اللازمة لإدارة أعمالهن الصغيرة، ولقد كانت تقنية المعلومات بالنسبة لهؤلاء النساء عالما أخرا.
ببساطة تبادل المعرفة يبني المعرفة.
وكان التزام جلالة الملك عبدالله الثاني بتجسير فجوة الأمل في الأردن الدافع وراء جهد وطني طموح للاستفادة من تقنية المعلومات للتنمية الشاملة للموارد البشرية، فقد زودنا كل مدرسة من مدارس المملكة سواء أكانت ابتدائية أم ثانوية بأجهزة الحاسوب كخطوة في هذا الاتجاه، وجعلنا تعليم اللغة الإنجليزية " لغة تقنية المعلومات " جزءا من المناهج الدراسية المقررة بدءا من الصف الأول الأساسي، أما تعليم الكمبيوتر فيبدأ في الصف الثاني. وفي نفس الوقت نستثمر بقوة في تدريب المعلمين ففي الصيف الماضي تضاعف عدد المعلمين المدربين على استخدام الحاسوب، كما بدأنا بفتح مراكز مجتمعية لتقنية المعلومات هدفها تمكين سكان المجتمعات النائية والأقل حظا من التدرب على الكمبيوتر والإنترنت والاستفادة من استخداماته.
إني على علم ببعض الانتقادات التي يجادل بها البعض ممن يصفون ما نقوم به لنشر التكنولوجيا والتقنيات في تلك المجتمعات بأنه هدرا للوقت والمصادر، وبنظرهم أن الأهم هو توفير الاحتياجات الأساسية للفئات الأقل حظا مثل تأمين رواتب ومأوى وطعام افضل، وهنا أؤكد عدم موافقتي لما يطرحون خاصة وان تمكين الشباب للاستفادة من فرص المستقبل يتطلب تسليحهم بالمهارات التكنولوجية اللازمة التي تعتبر مهمة ليس على صعيد الأفراد فحسب وإنما على صعيد العالم العربي بشكل عام.
ففي الأردن كما في غيره من الدول العربية، تترجم مهارات الشباب مباشرة إلى قدرات وطنية، ذلك أن اثنين من كل خمسة مواطنين أردنيين هما دون الرابعة عشرة، وأن واحدا من كل ثلاثة أردنيين ملتحق بالمدرسة، ونتوقع أن يلتحق 130,000 طالب جديد بمقاعد الدراسة كل سنة طيلة العقدين القادمين، كما أن معلمينا هم من فئة الشباب، إذ أن حوالي 40 % منهم دون سن الثلاثين، ولهذا فإن الوصول إلى شبابنا يعني الوصول للجميع.
إن تقنية المعلومات تضطلع بدور مركزي حاسم في هذا الصدد، ولكن إذا ما أردنا للتكنولوجيا أن تبلغ أقصى طاقاتها فنحن بحاجة لنفعل اكثر من مجرد الاستثمار ووضع التكنولوجيا في متناول الطلاب، إذ يترتب على التربويين المتخصصين تطوير برامج وأدوات تدريب وطرق تفكير لمساعدتنا على استخدام التكنولوجيا بشكل فاعل وعلينا البدء في توجيه أسئلة صعبة لأنفسنا، مثل:
كيف يمكننا أن نسخر قوة التكنولوجيا لتقليص التباينات في التعليم.
ما هي أفضل الطرق لتغيير ثقافة التعلم، ولإحداث توازن بين التعليم الاستظهاري (عن ظهر قلب) والتفكير الناقد، وبين " مهارات التعليم القديمة " والمهارات التحليلية الجديدة.
هل ثمة طرق افضل لمساعدة المعلمين على مواكبة العصر، ليس من خلال امتلاك مهارات تقنية جديدة فحسب، بل أيضا بالنمو السريع للمعرفة؟
وبينما نفكر في هذه الأوجه وغيرها من أوجه الابتكار علينا التفكير بأمور أساسية، وهذا يقودني إلى أمر ثالث وهو أنه يمكن للتعليم أن يتعلم من النجاحات في حقول أخرى، ألا وهو الاستفادة من مواطن القوة الكامنة لديكم.
إن العالم العربي يمتلك مقدرات عديدة وأحد أعظم مواطن تلك القدرات هي ثقافتنا المتميزة والثرية حول التعلم.
فهي ليست مجرد صدفة أن يكون تاريخ العلم والتكنولوجيا قد انبثق في الشرق الأوسط والعالم العربي، إن حضارتنا عميقة الجذور في مجال التعليم ولم يحظ طالب علم في أي مكان بهذا الشرف الكبير الذي يحظى به في مجتمعاتنا، إن احترامنا للتعلم قد أنشأ أجيالا من المكتشفين والعلماء والمفكرين.
فلا التقنية الجديدة ولا الاتصال العالمي ولا التجارة العالمية تستطيع أن تحل محل تقاليدنا وتاريخنا، بل على العكس من ذلك إن الحياة العالمية تزداد ثراء بما تقدمه لها بلداننا من تراثنا القوي وثقافتنا وديننا. ومزيج من هذه العناصر وخصائص عالمنا اليوم سيوفر لأطفالنا معادلة تقودهم في الصراع الأزلي لتشكيل الهوية.
هنا في العالم العربي نحن بحاجة إلى تقديم الدعم والمساندة لبعضنا البعض في معرض تصدينا للتحديات المستقبلية، وقد حققت شعوبنا تقدما فعليا في العقود الماضية، حيث ارتفعت معدلات الالتحاق بالمدارس الابتدائية وضاقت فجوة النوع الاجتماعي (الجندر)، كما حققنا قفزات كبيرة في مجال تنمية الطفولة المبكرة، وتشهد على صحة ذلك الإحصاءات الحديثة بيد أن الطريق أمامنا مازال طويلا.
فعلى سبيل المثال، نعلم أنه إذا أردنا أن نتقدم ونملك ثقافة ديناميكية علينا أن نولي اهتماما أكبر لتعليم المرأة، وتشير الأبحاث العديدة إلى العلاقة الايجابية الوثيقة بين تعليم الفتيات والنساء وبين قوة المجتمع ومع ذلك فالنساء يشكلن ثلثي الأمية في العالم العربي تقريباً.
ورغم ذلك فإن التقدم الذي تحرزه الدول العربية في هذا المجال يفوق التقدير الذي تحظى به، فمعدلات تسرب الفتيات من المدارس في العالم العربي هي أقل بكثير مما هي علية بين الذكور، وأن حوالي نصف عدد الطلبة في المدارس الابتدائية في العالم العربي من الفتيات، ومما يبعث على التفاؤل بنحو أكبر، أن النسبة ترتفع فعلا في المرحلة الثانوية كما أن معدلات الالتحاق بالتعليم العالي تشهد هي الأخرى تحسنا، ذلك أن اكثر من 40 % من الملتحقين بالجامعات في العالم العربي هن من النساء.
هذا التقدم يعكس ما هو أكثر من مواكبتنا للعصر، إنه يعكس اثنين من اعظم تقاليدنا: احترام التعليم، والدور المركزي الذي تضطلع به النساء في المجتمع، وإننا نكرم هذه التقاليد ونحن نتقدم في هذا المجال وغيره من المجالات.
وختاما دعونا ونحن نفكر بالمستقبل أن نستذكر سعينا للإنجاز من خلال أنظمتنا التربوية.
إلى ماذا نسعى؟ نسعى لتحقيق ما تصبو إليه جميع الشعوب العظيمة، نريد أن يحظى أطفالنا بفرص متكافئة في الحياة وأن يحققوا طاقاتهم الكامنة من خلال حصولهم على سلسلة واسعة من الوظائف والمهن، ونريد توفير سبل الوصول لكل ما يستطيع العالم أن يقدمه لهم، من خلال شبكة الإنترنت وتقنيات المعلومات الجديدة، نريد لهم أن يصبحوا قادرين على التعليم كما التعلم، وان يمتلكوا ناصية الأفكار الجديدة وأن يحققوا نجاحات باهرة وأن يقوموا بدورهم في تثقيف العالم حول المعارف والقيم الأصيلة لمنطقتنا.
وباختصار نريد أن يمتلك أطفالنا الثقة بالنفس، والاعتزاز بما يستطيعون تحقيقه.
إنها مسؤولياتنا تجاههم وخصوصية الدور الذي نضطلع به يكمن في مساعدتهم على النجاح، وهذا يتطلب قيادة بنظرة متفتحة الذهن ومتعاطفة مع قضية تعليم أطفالنا...قيادة تعتبر التعليم حقا أساسيا من حقوق الإنسان...قيادة مكرسة لتوفير سبل جديدة للوصول إلى الجميع.
هذه هي الطريقة التي سنحول من خلالها فجوة الأمل إلى جسر للأمل...يربط شعوبنا بعالم من الإمكانيات التي لا حدود لها.
وختاما، أقدم لكم عظيم شكري وامتناني.
مواضيع مختارة
موقع جلالة الملكة رانيا العبدالله الرسمي
هذا الموقع الإلكتروني لا يدعم متصفحات الإنترنت القديمة. الرجاء تحديث متصفح الإنترنت إلى نسخة أحدث من إنترنت إكسبلورر 9
متصفح الإنترنت الذي تستخدمه قديم. لتحسين مستوى الأمان عند تصفح مواقع الإنترنت و مشاهدتها بالشكل الصحيح و بفعالية افضل قم بتحديث متصفح الإنترنت الخاص بك