ترجمة كلمة الملكة رانيا في قمة عالم شاب واحد – مونتريال، كندا

22 أيلول 2024

بسم الله الرحمن الرحيم

شكراً لك بوب على هذه المقدمة اللطيفة. يسعدني أن أكون هنا في مونتريال معكم جميعاً.

في الخريف الماضي سُررت بالانضمام للعديد منكم في القمة في بلفاست، بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على انتهاء الصراع في ايرلندا الشمالية.

كان تجمعنا احتفالاً بالسلام – تذكيراً بأن حتى أعتى الحروب يمكن إنهاؤها.

لكن صراعاً آخر كان يشغل بالي: ذلك بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

حينها شاركتكم مخاوفي من أن العالم بعد سبعة وخمسين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي، فقد الاهتمام بمصير الشعب الفلسطيني... وأن العالم لم يتحرك لوقف الهجمات المتصاعدة على الأرض والحقوق والهوية الفلسطينية.

ولا شك أن بعضكم تساءل ما علاقته بذلك. فهناك ما يكفي من الأزمات العالمية التي تتنافس للحوز باهتمامكم.

لكنّي شعرت بضرورة تسليط الضوء على هذا الصراع تحديداً، لأنه في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتم فرض واقع غير مسبوق.

الضم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والحصار على قطاع غزة، وهجمات المستوطنين في الضفة الغربية، والقمع والظلم، كلها أصبحت جزءاً من نظامنا العالمي، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات جمة على المستقبل الذي سترثوه.  

ومع ذلك، عندما نظرت إلى جمهور القمة، لم أستطع إلا أن أشعر بالتفاؤل.

قلت حينها أن "الأمل خيار" وتجرأت على الاعتقاد بأن خيارات أفضل تلوح في الأفق.

بعد خمسة أيام... في السابع من تشرين الأول، استيقظ الإسرائيليون والفلسطينيون على واقع جديد مروع.

منذ ذلك الحين، أصبح الأمل خياراً أكثر صعوبة.

اليوم يصادف اليوم العالمي للسلام. وها نحن مرة أخرى، نلتقي في يوم خُصص للسلام، مُجبرين على مناقشة واقع حرب.

إراقة الدماء بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليس جديداً.

لكن العالم صُدم بحجم وطبيعة العنف خلال العام الماضي – بدءاً من السابع من تشرين الأول في هجوم حماس على إسرائيليين واحتجاز المئات (من الرهائن) ... ومن ثم على مدار ثلاثمائة وخمسين يوماً من حملة عسكرية إسرائيلية هوجاء ضد الفلسطينيين.  

يحظر القانون الدولي الإنساني العقاب الجماعي – لكن في غزة، العقاب الجماعي هو الهدف. فالحصار هو الحرمان المتعمد: حرمان كل رجل وامرأة وطفل من كل ما هو ضروري لاستدامة الحياة، على أمل أن تؤدي المجاعة والمرض والإحباط إلى الهزيمة. وهذه الاستراتيجية هي بقايا إرث من حروب الماضي، مُضاعفة بأسلحة العصر الحديث.

كالكثيرين حول العالم، صُدمت من مشاهد التدمير في غزة. في كانون الثاني، عندما أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل بعدم ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية في غزة، كان ثلث المباني قد تضرر أو دُمر بالكامل.

ومنذ ذلك الحين، تضاعف ذلك الرقم.

اثنان من كل ثلاثة مبانٍ في غزة الآن غير صالحة للسكن. تم استهداف البيوت والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والبنى التحتية للمياه ومستودعات المواد الغذائية وحتى دور الأيتام.

تتفاقم الكارثة بتدفق مستمر لأوامر الإخلاء الإسرائيلية.  تم تهجير تسعة من كل عشرة أشخاص مرة واحدة على الأقل – والبعض حتى عشر مرات.

تخيلوا ما يقارب مليوني شخص – أكثر من إجمالي عدد سكان مدينة مونتريال – يهربون للنجاة بحياتهم وليس معهم سوى الملابس التي يرتدونها وأطفالهم المصدومين في أحضانهم.

تخيلوا عائلات محصورة في مدن مكتظة من الخيام، مع وجود 24 ألف شخص في كل كيلومتر مربع، وأكثر من 4 آلاف شخص لكل مرحاض.

لطالما وُصفت غزة بأنها سجن مفتوح. اليوم هي أصبحت زنزانة خانقة.

بدون مياه للشرب، ناهيك عن غسل اليدين، تنتشر الأمراض كالنار في الهشيم: التهاب الكبد، والجرب، وحتى الحالات الأولى من نوعها في القطاع من شلل الأطفال منذ ربع قرن.

كيف يمكن للناس النجاة في ظل هذه الظروف المروعة؟ الإجابة المختصرة هي أنهم لا يستطيعون ذلك – على الأقل – ليس لفترة طويلة. فقد لقي أكثر من 41 ألف فلسطيني مصرعهم في غزة حتى الآن. 

ويشمل هذا الرقم 16 ألف طفل على الأقل. ولا يزال أكثر من 20 ألف طفل في عداد المفقودين: فُقدوا أو اعتقلوا أو دُفنوا تحت الأنقاض أو في مقابر جماعية.

لا مكان لمثل هذه المعاناة في يومنا هذا، ومع ذلك، تنتقل مشاهد النزوح الجماعي والمجاعة والأمراض من كتب التاريخ إلى صفحات الانستغرام.

لم تُعيد هذه الحرب قطاع غزة عقوداً إلى الوراء فحسب. بل تجر بقية العالم نحو حالة من الفوضى، مكانها الأجدى في كتب التاريخ.

والأسوأ، عبر السماح بذلك – والاستمرار في تقديم الغطاء العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لإسرائيل – تُرسل العديد من القوى العالمية رسالة مُرعبة عن مستقبلنا: أن هذا هو شكل الحروب القادمة.

قُلت إن الأمل هو خيار.

لكن ليتمكنوا من الشعور بالأمل، يحتاج الناس إلى حرية الاختيار.

بالنسبة لمعظمنا، مسار حياتنا تحدده الخيارات التي نتخذها. كل خيار يضعنا على مسار مختلف قليلاً، ويساهم في تشكيل من سنصبح.

إلا أنه في ظل الاحتلال الإسرائيلي، تم تجريد الفلسطينيين من قدرتهم على الاختيار إلى أقصى حد.

في قطاع غزة، نشأ جيل بأكمله لا يعرف سوى القيود.

بعد 17 عاماً من الحصار العسكري، و12 شهراً من الحصار شبه الكامل...  نفذت مواردهم وقدرتهم على التحمل... ونفذت خياراتهم. كل ما تبقى هو خيارات مستحيلة ومشينة:

هل يلجأوا إلى مدن من خيام مكتظة وغير آمنة أم يبقوا في منازلهم ويخاطروا بأرواحهم؟ هل يسمحوا لأطفالهم العطشى بشرب مياه ملوثة، أو يحرموهم حتى من ذلك الفرج المؤقت؟ هل يخاطروا بحياتهم لاستعادة جثث أحبائهم من تحت الأنقاض... أم يتركوها لتتحلل حيث سقطت؟

عندما أنظر إلى غزة اليوم، لا أرى إلا خيارات زائفة. إما موت سريع بقنابل ورصاص، أو موت بطيء من الجوع والمرض. لا احتمالات – حتميات فقط.

تلك ليست خيارات على الإطلاق.

حتى خارج غزة، تفرض إسرائيل السيطرة على كل منحى من مناحي حياة الفلسطينيين تقريباً. ففي الضفة الغربية، يواجه الفلسطينيون قيوداً تعسفية على أبسط الاسئلة وأكثرها أهمية: أين يمكنهم العيش؟ أي طرق يمكنهم استخدامها؟ ماذا يمكنهم شراؤه؟ أين يمكنهم الصلاة؟

عندما يُحرم شعب من الخيارات الحقيقية، فإن ذلك يؤدي إلى عرقلة تقدمه الحقيقي. تعاني التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لديه. يتعثر نموه... وتكبت إمكانياته.

 الشعب الفلسطيني فتيّ، أكثر من 70% من الغزيين تحت (سن) الثلاثين. مثلكم جميعاً، يسعى هؤلاء الشباب والشابات لحياة ذات مغزى. لكن لتحقيق ذلك، يجب أن تكون لهم حرية رسم طريقهم. 

دون استقلال حقيقي، تُنتقص إنسانيتهم ... وتبقى تطلعاتهم بعيدة المنال. 

لقد كنت دائماً ولا زلت مؤمنة إيماناً راسخاً بأن نظرتنا للحياة تساهم في تشكيل تجاربنا. الخطوة الأولى نحو بناء مستقبل أفضل هي الإيمان بإمكانية تحقيق ذلك. لكن بعد عام من الأحزان وخيبة الأمل ووجهات نظر متباينة اسمحوا لي أن أعدل ما قلته سابقاً.

الأمل هو خيار. والأمل ضروري. لكنه ليس ولم يكن كافياً أبداً.

لا يحتاج المُضطَهدون والمظلومون إلى تغيير في العقلية. بل يحتاجون إلى تغيير في الظروف – وهم يحتاجونه الآن.

على مدار الأشهر الماضية، يتعرض الفلسطينيون في غزة إلى ظروف غير إنسانية. كل يوم مأساة جديدة لا يمكن تصورها: أطفال رضع مستشهدين على أسرة المستشفيات بعد أسبوعين من إجبار الأطباء على مغادرة المستشفى تحت تهديد السلاح. وشاب مصاب بمتلازمة داون تعرض لهجوم من كلب عسكري وتُرِك ليموت وحيداً. أسرى فلسطينيون أفرج عنهم بعد أشهر من الاعتقال التعسفي، يعرجون... أجسامهم هزيلة، ويتحدثون عن تعذيب لا يمكن تصوره.

ومع ذلك، في الوقت الذي نحتاج فيه لتحرك سريع، نرى المجتمع العالمي يُرواح مكانه.

لا يمكن لذلك أن يستمر.

قال رئيس الأساقفة ديزموند توتو ذات مرة: "في وجه معاناة إنسانية، يجب أن يكون استياؤنا بمثابة الدعوة للعمل، وليس ذريعة للتقاعس".

لم يعد الأمل وحده كافياً، ولا مجال للصبر. علينا المطالبة بشيء مختلف.

ليس وقفاً مؤقتاً للعدوان... وليس عودة إلى وضع راهن مرفوض... بل سلام حقيقي وعادل، مبني على الاحترام العالمي للكرامة والإنسانية وحق تقرير المصير.

ولتحقيق ذلك علينا العودة لجذور هذا الصراع: الاحتلال غير الشرعي لفلسطين.

مؤخراً، أكدت محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة الحقيقة التي لطالما عرفها الكثيرون منا: وجود إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة غير قانوني ويجب أن ينتهي.  

لا يمكننا السماح بتجاهل القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الملزمة قانونياً ونتائج المحاكم الدولية لاعتبارات سياسية. لا يمكننا السماح للأصوات المتطرفة بأن تضللنا.

السلام لا يحدث صدفة. السلام مثل الأمل هو خيار – خيار فشل عالمنا في اتخاذه لفترة أطول بكثير مما ينبغي.

حان الوقت لاختيار طريق آخر. ويمكن لجيلكم أن يساعد في تمهيد الطريق.

إحدى البقع المضيئة القليلة في العام الماضي جاءت من شباب مثلكم: أفراد واعين ومتعاطفين وملتزمين بمحاربة الظلم أينما كان. طلبة ونشطاء وقادة شباب في كل قارة - والعديد منهم لا تربطهم أي روابط شخصية بالشرق الأوسط - تبنّوا القضية الفلسطينية كأنها قضيتهم.

بالرغم من الرياح المعاكسة القوية، اختاروا أن يتخذوا موقفاً من أجل أولئك الذين لا يمتلكون الخيارات. وذلك القرار، مثل كل قرار، غيّر مسار عالمنا قليلاً. 

قد يكون التغيير غير ملحوظ. لكن خطوة بخطوة يمكن تصحيح المسار نحو العدالة. والواقع، أن التصحيح بدأ بالفعل. فمن الشوارع إلى حرم الجامعات وصولاً إلى أعلى المحاكم الدولية، يتم التأكيد مراراً على مساواة حق الفلسطينيين بالحياة والحرية.

الآن، علينا الاستمرار في الدفع إلى الأمام. من أجل الشعب الفلسطيني، ومن أجل أنفسنا أيضاً.

الفلسطينيون والإسرائيليون ونحن جميعاً نستحق عالماً يرتكز على العدالة والمساواة، حيث يطغى حكم القانون على حكم القوة.

نستحق نظاماً عالمياً يُقابل جرائم الحرب والانتهاكات بالعواقب، لا بالاستثناءات.

نستحق أن ندرك أن قيمتنا لا يحددها جواز السفر الذي نحمله أو لون بشرتنا، بل إنسانيتنا بحد ذاتها.

واليوم، تنظرون إلى هذه القضية بنظرة مختلفة غير مثقلة بالتحيزات التاريخية. وبإمكانكم اختيار توجيه أنظاركم نحو الحقيقة المجردة.

لذا أحثكم على قراءة تاريخ هذا الصراع. حاولوا أن تتخيلوا واقع الحياة تحت وطأة الاحتلال الساحق. تعرفوا على روابط الفلسطينيين العميقة بالأرض وأشجار الزيتون التي ورثوها عن أجدادهم. تحدثوا إلى أهل المنطقة (الشرق الأوسط) عن معنى السلام العادل بالنسبة لهم.

تمحصوا في الرواية السائدة، توصلوا إلى استنتاجات خاصة بكم وأكثر دقة، وساهموا في دفع العالم نحو الاتجاه الصحيح.

مع كل جيل ناشئ تأتي فرصة جديدة لتصحيح المسار... ولا نملك رفاهية إضاعة الوقت. 

قدرتكم على التأثير هي قوتكم؛ لذا، استغلوا الخيارات التي تُمنح لكم على أكمل وجه. أشجعكم ألّا تكتفوا بالأمل الأعمى في مستقبل أفضل، بل العمل بفاعلية من أجل خلقه... وعلى منح صوتكم لأولئك الذين تم إسكاتهم... والدفاع عن العدالة ضد كل من يسعى لتقويضها."

تذكروا أن الوقوف مكتوفي الأيدي ليس خياراً. عالمنا في حركة دائمة –إما أن نتقدم جميعاً، أو نتراجع جميعاً. كما قالت أنجيلا ديفيس " علينا أن نتعلم كيف نرفع الآخرين بينما نصعد."

بعض خياراتكم ستكون صعبة. لكن العديد من الأسئلة الأكثر أهمية تحمل إجابات بسيطة.

هل ستقفون مع القانون أم الفوضى؟ مع المساءلة أم الإفلات من العقاب؟ مع الحياة أم الموت؟

هل ستختارون النظر إلى الشعب الفلسطيني كما هو– كبشر – أم كأناس أقل شأناً، لا يستحقون حقوق الإنسان التي نتمتع بها جميعاً؟

الخيار بيدكم. وهذا الخيار سيكون إرثكم.

شكراً لكم جميعاً.