ترجمة كلمة الملكة رانيا في قمة كوغ اكس للقيادة العالمية
أشار المؤلف المسرحي يوجين يونسكو ذات مرة: "ليست الإجابة ما يُنير العقول، وإنما السؤال".
يعجبني هذا الاقتباس، وهو يلخص سبب حرصي على الانضمام إليكم هنا في كوغ إكس (CogX).
لأن السؤال: "كيف ننجح في السنوات العشر القادمة؟" بالتأكيد في مكانه.
ففي السؤال إقرار أن مستقبلنا هو ما ستصنع أيدينا.
الأمر الذي قد يبدو بديهياً.
لكن هل هو فعلاً كذلك؟
لأنه في عصر نحمل فيه عالماً من المعلومات في جيوبنا... عصر يَحول فيه نظام تحديد المواقع من ضياعنا... وينتج لنا الذكاء الاصطناعي برمجيات ومحتوى متنوع... وفي زمن أصبحنا متصلين فيه بكل شيء، في كل مكان وفي الوقت نفسه... من المغري الافتراض أن التقدم أمر مفروغ منه، وكأن التطور المستمر من قوانين الطبيعة، وما نحن إلا سائرين مع الركب.
ومن السهل أن يتشتت تركيزنا.
ننبهر بعلاجات تعِدُنا بالعيش الأزلي، بينما يموت يومياً حوالي 14 ألف طفل تحت سن الخامسة لأسباب يمكن تجنبها... نتابع مدراء تنفيذين وهم يستعرضون عضلاتهم، في حين يُكافح ملايين الفقراء من أجل البقاء... وتُبهرنا صواريخ تحمل سياحاً إلى الفضاء، بينما يتعرض كوكبنا للاحتراق والغرق في آن واحد.
وفي نفس الوقت، تتنامى تحدياتنا المشتركة... وتنتشر... فنجدها تحدق بنا من كل صوب: أزمة أخرى، مدينة أخرى تشتعل، فيروس فتاك آخر، تزايد في عدم المساواة، وتراجع في الثقة، ونصف سكان العالم عرضة لخطر اضطرابات الصحة العقلية.
حتى أعظم التطورات التقنية التي حققناها قد تنقلب لتصبح كوارث محتملة، حيث يحذرنا العديدون ممن شاركوا في تطوير الذكاء الاصطناعي من أنه قد يقضي علينا جميعاً.
ليس غريباً أن نشعر وكأن العالم فقد توازنه... وكأن الأمور تدهورت بسرعة فائقة.
لكن في الحقيقة، أصبنا في الكثير من الأمور، إذ تشير بيانات التنمية إلى تحسن في مؤشرات الصحة والتعليم والحريات ومكافحة الفقر.
لكن توازي ذلك حقيقة أخرى بذات الأهمية: التقدم ليس حتمياً ولا يحدث تلقائياً. نحن من نرسم المسار ونمسك العجلة. لكني لا أظن أن الكثيرون يدركون أن كل قرار نتخذه أو حتى لا نتخذه اليوم سيحدد أين سينتهي بنا المطاف غداً... لذلك فالتصرف وكأن المستقبل يعتمد علينا ليس خياراً بل أمرٌ لا بد منه.
نمتلك ما يلزم. ولدينا الكثير من الحلول، والقدرة أيضاً على إدماج الذكاء الإنساني والاصطناعي بطريقة مسؤولة للتوصل لتلك الحلول التي لا نملكها بعد.
لذا، ما ينقصنا ليس الموهبة أو التكنولوجيا… بل تنقصنا الإرادة السياسية. ولا يمكن لأي تطبيق أن يقدم لنا ذلك– إلا إذا كان أحدكم قادراً على ذلك! - فما نحتاجه هو منهجية جديدة للقيادة الإنسانية.
اليوم أود أن أقدم لكم ثلاث طرق لقلب الموازين فيما يخص أبجديات القيادة.
أقوم بهذا الدور منذ 25 عاماً.
قابلت خلالها عدد لا يحصى من القادة، وجلست مع أكثر الناس تأثيراً وأقلهم حيلة. أخذني عملي من منتديات دولية مثل هذا... إلى مخيمات بائسة ومعزولة ومكتظة بلاجئين تفوق معاناتهم الوصف بالكلمات.
هناك، بين أولئك الذين انقلبت حياتهم رأساً على عقب، تغير بالنسبة لي مفهوم القيادة.
لأنه في مخيمات اللجوء من الأردن إلى اليونان وبنغلادش، قابلت أشخاصاً لا يحوزون شيئاً لكنهم مع ذلك يشاركون كل ما يملكون. أشخاص اضُطهدوا من قبل عالم أناني، وما زالوا يقدمون حياة الآخرين على حياتهم.
من خلال عملي، لم تتغير نظرتي لمفهوم القيادة فقط، لا بل انقلبت.
فإذا كان بإمكان قلة هم أكثر الناس ضعفاً في العالم التصرف بهذا القدر من القوة، ماذا يقال عن بقيتنا؟
كنت أعتقد أن أقوى القادة هم أصحاب القناعات الراسخة. الآن، أؤمن أن التساؤل والتشكيك هما الوسيلة لاختبار صحة وقوة قناعاتنا.
كنت أعتقد أن القادة المؤثرين يقودون من الأمام فقط. الآن، أؤمن أن قدرتنا على اتّباع الآخرين توازي قدرتنا على القيادة أهمية.
كنت أعتقد أن أكثر القادة حكمةً يستندون بشدة على المنطق. في حين تكمن قوتنا هنا وهنا (في تسخير العقل والقلب).
دعونا نبدأ بفكرة الشك.
لكي ننجح في السنوات العشر القادمة، علينا أن نصبح أكثر تقبلاً حين يتبين أننا كنا مخطئين.
مجرد قول ذلك يعطيني شعوراً بعدم الارتياح... فأنا في نهاية المطاف أم. والأم دائماً على حق، حتى حينما تكون مخطئة!
لكن من أكبر المخاطر التي نواجهها اليوم هو الانغماس في اليقين المطلق.
من الشائع اعتبار الشك مؤشراً على الضعف، لكن الشعور الواهم بالأمان أسوأ.
ما نراه حول العالم من خطاب عام متشدد هو عبارة عن يقين تَرسخ فوصل درجة التعصب... استُبدلت فيه المرونة في التفكير بالتشدد والتعنت.
عندما لا نتقبل الآراء التي تتعارض مع أفكارنا، نلجأ لتحقير مؤيديها. نتمترس في خنادق "نحن" ضد "هم"، فتزداد المسافات بيننا... ما يجعل من حل المشكلات أمراً شبه مستحيل.
هذا العام، في استطلاع شمل 27 دولة، قال ستة أشخاص من أصل 10 أن النسيج الاجتماعي لبلدهم وصل درجة من الضعف، فما عاد بالإمكان اعتباره أساساً للوحدة.
وأشار عدد أكبر منهم إلى أن قلة الاحترام المتبادل واللباقة اليوم هي الأسوأ حالة فيما شهدوه على الإطلاق.
ومع ذلك، نتمسك باليقين كدرع أمام نقاط ضعفنا كبشر.
عندما تعم الفوضى عالمنا، نلجأ إلى إلقاء اللوم على الاعتراف بأننا أضعنا وجهتنا.
لعلكم تذكرون، حادثة غرق قارب صيد مكتظ في البحر الأبيض المتوسط حزيران الماضي. فاجعة متكررة... لقي فيها أكثر من 600 راكب حتفهم… ولم ينج منهم أي امرأة أو طفل.
كانوا مهاجرين غادروا أوطانهم للبحث عن حياة أفضل في أوروبا – في رحلة كانت الأخيرة.
على الفور، أخذت الأطراف المتنازعة مواقعها...
طرف جادل أن سياسات الهجرة المتشددة في أوروبا دفعت السلطات لتأخير عمليات الإنقاذ...
وطرف آخر أصر على أن تساهل أوروبا هو ما دفع المهاجرين إلى المخاطرة بحياتهم في المقام الأول.
اعتبر كل طرف القارب الغارق دليلاً على صحة روايته. وقام كل منهم بتقييم الأدلة بطريقة تتماشى مع قناعته.
ما يسميه علماء النفس بـ"التحيز للذات". وكلنا معرضون لذلك.
يجعل هذا السلوك توجيه أصابع الاتهام والشعور بأنك على حق أكثر سهولة. يجعل من السهل الاستنتاج أن الطرف الآخر ساذج ويفتقر للإنسانية والمنطق.
لكن “التحيز للذات” ليس مناورة هجومية فقط... لا بل تكتيكاً دفاعياً أيضاً لتجنب المسؤولية المخيفة التي كنا سنتحملها.
لأننا لو أسقطنا درع اليقين المطلق لواجهنا أسئلة مؤلمة... مثل:
كيف سمحنا بحدوث ذلك؟
وكيف وقفنا متفرجين مكتوفي الأيدي؟
هل نحن حقاً حبيسي خنادق أفكارنا لدرجة لم تُمكننا من التحرك لإنقاذ طفل يغرق؟
قد يعتقد البعض أن اليقين هو دلالة على النزاهة الأخلاقية.
لكن هل هو حقاً كذلك؟
لأن اليقين يمكن أن يؤدي إلى صدع أخلاقي – إلى قيم مشوهة تأخذ السفينة الغارقة دليلاً لإثبات وجهة نظرنا قبل اعتبارها كارثة إنسانية.
عندما نسمح لقناعاتنا بتقسيم العالم إلى معسكرات، نحارب بعضنا البعض بدلاً من محاربة مشاكلنا... ونفوت فرصة إيجاد أرضية مشتركة.
ففيما يتعلق بمسألة الهجرة، يمكننا قلب الموازين لتصبح فرصة لا مشكلة... ففي العديد من البلدان المتقدمة هناك فائض في الوظائف. ويشير أحد التقديرات إلى أنه بحلول عام 2050، ستواجه المملكة المتحدة وأوروبا فجوة قدرها 44 مليون عامل.
وإذا تخلينا عن التفكير الصفري، سيصبح باستطاعتنا توليد منفعة متبادلة من خلال إنشاء برامج تعمل على التوفيق بين الوظائف الشاغرة والعمالة المؤهلة.
ولكن لكي نرى الطريق واضحاً أمامنا، علينا أن نكون منفتحين على التساؤل والشك.
المكون التالي في خلق نوع جديد من القيادة هو أن نتعلم كيف نتبع الآخرين.
وأنا بالتأكيد لا أتحدث عن "تسجيلات الإعجاب" وإعادة التغريد على وسائل التواصل الاجتماعي؛ أنا أتحدث عن نوع التبعية التي غذت الحركات الاجتماعية الكبرى في العالم:
مثل أوائل النساء اللواتي شاركن في اجتماعات حق الاقتراع.
العمال السود الذين قاطعوا ركوب الباصات.
الجنوب أفريقيون الذين رفضوا حمل تصريحات المرور الخاصة بالفصل العنصري.
أنا أتحدث عن الأشخاص الذين وقفوا في القاعة عندما لم يتبقى مقعداً فارغاً في القاعة. أولئك الذين ضموا أصواتهم ونشروا الكلمة، حتى علا صوت الجماعة إلى حد لا يمكن تجاهله.
كلكم تعلمون أننا نواجه اليوم تحدياً وجودياً يدعو لحركة عالمية.
يقول العلماء أننا إذا تخطينا درجة ونصف من الاحترار، ستصل الكوارث المناخية إلى حد لن يتمكن البشر من التأقلم معه.
وفي الوقت الحالي، نحن على مسار لتجاوز هذا المستوى بحلول أوائل ثلاثينيات القرن الحالي.
ولا شك أننا سنحتاج لقادة فاعلين لتلافي الكارثة.
لكن التغيير السياسي سيحدث فقط بالمشاركة الفاعلة من قبل الجميع. ويقترح الأكاديميون أن نقطة التحول للحركات الناجحة هي بمشاركة 3,5 بالمائة من السكان.
تخيلوا ما يمكننا تحقيقه، لو ساعد أشخاص مثلكم – قادة شركات ناشئة ومؤسسات فكر ورأي ورؤساء فرق عمل – في دعم الدور الذي يمكن أن يلعبه كل واحد منا ليس كقائد فقط، بل كجزء من أولئك الـ3,5 بالمائة الذين يدفعون الحركة.
وأقتبس هنا كلمات عالم البيئة بيل ماكيبين، إذا نظرنا "لحجم المشكلة التي نواجهها... فإن أهم ما يمكن للفرد أن يفعله هو أن يبتعد عن فرديته".
إذا استطعنا فعل ذلك، إذا تمكنا من رؤية أنفسنا كجزء من شيء أكبر... أعتقد أنه سيمكننا تغيير مسار التاريخ.
المكون الأخير للشكل الجديد للقيادة هو تبني منطق التعاطف.
كي نضع الأمور في نصابها الصحيح علينا فعل الصواب. وهذا يتطلب التفكير بقلوبنا.
في عام 2011، كما يذكر الكثيرون منكم، اندلعت الأحداث في سوريا. وفي غضون أشهر، لجأ مئات الآلاف من السوريين إلى الأردن.
كان أمام جلالة الملك عبدالله قراراً صعباً ليتخذه: هل نفتح حدود الأردن؟
كان هناك العديد من المتغيرات، بدءاً من مواردنا المحدودة إلى البطالة والاستقرار المجتمعي، وتوفير التعليم والرعاية الصحية وغيرها.
وبإمكانكم أن تتخيلوا ماذا كانت لتفعل الخوارزميات بهذه المعطيات.
لكن أدرك جلالة الملك ما هو الأكثر أهمية. قلبه قاد أفعاله، فعلى حد تعبيره: "هناك طفل جائع وأم يائسة على حدودنا. كيف لا نسمح لهم بالدخول؟"
اليوم، واحد من كل ثمانية أشخاص في بلدي الأردن هو لاجئ سوري. ولا يسعني إلا أن أكون أكثر فخراً بالكرم الذي أظهره رجال ونساء وطني.
ونحن نتحدث الآن، تستقبل تشاد ودول أفريقية أخرى اللاجئين من السودان. بالرغم من معاناتهم ومواردهم المحدودة، لكنهم يفعلون الشيء الصحيح أيضاً.
لكن خلال العام الماضي، زاد عدد الأشخاص النازحين قسراً على 110 مليون شخص. ولا تستطيع الدول المجاورة للنزاع أن تتحمل مسؤولية "فعل الشيء الصحيح" بالنيابة عن الجميع.
منذ شهر تموز الماضي، خفض برنامج الأغذية العالمي الدعم للاجئين السوريين في الأردن – ليس لانتفاء الحاجة، لكن بسبب نشوب أزمات طارئة في أماكن جديدة، في نفس الوقت الذي انخفض فيه دعم المانحين.
تستضيف البلدان متدنية ومتوسطة الدخل 74% من النازحين في العالم... بينما تشيد بعض الدول الأكثر ثراءً أسواراً وجدراناً، فعلية ومجازية على حد سواء - حيث يصور البعض طالبي اللجوء على أنهم غزاة.
ولا يسعني إلا أن أشير إلى التباين في التعاطف تجاه اللاجئين الذين هربوا من أوكرانيا وأولئك الذين يتركوا السودان. فبعد أربعة أشهر من الحرب هناك، تم تلبية أقل من 30 بالمائة من النداءات الموجهة للجهات المانحة، في حين تم تمويل 70% من نداء الطوارئ لدعم الأوكرانيين خلال الشهر الأول من إطلاقه.
لا أعتقد أننا بحاجة إلى حاسوب خارق ليفسر لنا هذا التمييز.
عندما يتم شيطنة الأفراد لسعيهم من اجل حياة أفضل لعائلاتهم، نجعل من معاناتهم أمراً مقبولاً.
نجعل من غرق 11 طفل أسبوعياً خلال محاولة عبور البحر الأبيض المتوسط أمراً مقبولاً.
ونجعل من مجاعة في عالم من الوفرة أمراً مقبولاً أيضاً – ليس لعدم قدرتنا على مساعدتهم، بل لأننا اخترنا طوعاً ألا نساعدهم.
لذا قد يكون السؤال الآخر الذي يهم هذا الجمع هو: ما فائدة الذكاء الاصطناعي إن لم نتمكن من حشد التعاطف الإنساني الصادق؟
لهذا السبب، ولكي ننجح في السنوات العشر القادمة، علينا فعل الصواب ابتداءً من هذه اللحظة. ما زلت أؤمن بأن الطريقة التي نتصرف بها كبشر هي ما يصنع الفرق.
ما زلت أؤمن أن تعاطفنا مع بعضنا البعض، واستعدادنا لرؤية أنفسنا كجزء من شيء أكبر، وإدراكنا أننا جميعاً نستحق عيشاً كريماً... كل ذلك هو ما يقود التقدم الذي نسعى له.
إذا أردنا أن نقيم نظامنا الصحي، علينا ألا نغفل النظر إلى الرعاية التي نقدمها للمرضى. ولقياس منعتنا، علينا أن نقيم دفاعنا عن المضطهدين. لنحدد هدفنا، علينا النظر إلى المهمشين بيننا. وللبقاء على المسار، علينا ضمان ألا يتخلف أحد عن الركب.
تحدياتنا معقدة – لكنني أدرك أن هذا الجمع ليس من النوع الذي يتجنب التعقيد.
عندما نسأل عن كيفية تحقيق النجاح في السنوات العشر القادمة، فإن فرضيتنا في كوغ اكس هي أننا قادرون على ذلك.
كل يوم يعمل أصحاب العقول النيرة أمثالكم على كسر حواجز جديدة والقيام بما لم يتم القيام به من قبل.
إذا قيمنا قناعاتنا من خلال قدرتنا على الشك... والقيادة من خلال استعدادنا للتبعية... وقراراتنا ما إذا كانت نابعة من العقل والقلب سوياً... سنتمكن من مواجهة المستقبل معاً بطاقة وتفاؤل وأمل.
يمكننا جعل السنوات العشر القادمة أعظم حقبة من التقدم عرفتها البشرية.
وكل عام يتلو ذلك.
شكراً جزيلاً.
مواضيع مختارة
موقع جلالة الملكة رانيا العبدالله الرسمي
هذا الموقع الإلكتروني لا يدعم متصفحات الإنترنت القديمة. الرجاء تحديث متصفح الإنترنت إلى نسخة أحدث من إنترنت إكسبلورر 9
متصفح الإنترنت الذي تستخدمه قديم. لتحسين مستوى الأمان عند تصفح مواقع الإنترنت و مشاهدتها بالشكل الصحيح و بفعالية افضل قم بتحديث متصفح الإنترنت الخاص بك