كلمة الملكة رانيا خلال حفل تسلم جائزة والتر راثيناو
سيادة المستشارة ميركل، السيد ستينلين، د.هوير، السيدات والسادة،
أشكركم على حفاوة الترحيب، إنه لشرف عظيم أن أكون بينكم اليوم. وأنا إذ أتشرف بتسلّم هذه الجائزة التي أعتبرها تقديراً للشعب الأردني الذي يبرهن من خلال حياته اليومية - بالفعل أو بالقول – القيم الرائعة التي تنسجم مع سيرة والتر راثيناو.
قيم كالشجاعة والرحمة والمساواة والتفاهم والتسامح والإحترام المتبادل، هي بمعنى آخر الشعور بالإنسانية.
إنها قيم يشترك بها بلدينا، وتشكل في الوقت ذاته دعامة رئيسية لصداقة دائمة بين شعبينا. واليوم نجد أنفسنا أكثر من أي وقت مضى، في ظل مواجهة مأساة إنسانية ملحة وعاجلة. وأنا اتحدث بالطبع عن خروج الآلاف من اللاجئين السوريين الذين يبحثون بيأس عن الأمان والملاذ الآمن والدعم.
إن ما قامت به ألمانيا حكومةً وشعباً، وما قمت به (المستشارة ميركل) للتعامل مع هذه الكارثة، هو تقدير لذكرى والتر راثيناو، وإعادة إحياء لإرثه.
تخيلوا الفخر الذي كان سيشعر به راثيناو لو كان موجوداً بيننا، لما يبذله الألمانيون من روح العمل التطوعي، ووقتهم وجهدهم للتخفيف من معاناة الآخرين.
أو لما يظهر الألمانيون من مدى كرمهم وهم يقدمون التبرعات لمساعدة السوريين الذين لا يملكون سوى ملابسهم التي يرتدونها. أو لمبادرة الترحيب التي اطلقت من اجل دمج اللاجئين مع المواطنين الألمانيين المستعدين لتقاسم منازلهم معهم.
إن ما يقوم به الشعب الألماني أمر وصفته المؤلفة جي كي رولنغ بالقدرة على التفكير كالآخرين، وتخيل أنفسهم مكان الآخرين."
إنهم يدركون حجم خسارة هؤلاء اللاجئين وما فقدوه. هم يدركون مدى تعبهم وإرهاقهم بعد رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، ويدركون شعور الأم الملهوفة على طفلها، وقلق الجد الذي لا يتحدث الألمانية. وبتخيل أنفسهم مكان هؤلاء اللاجئين السوريين، استحوذت غريزة مساعدة الآخر عليهم، وهذه قيمة أساسية للإنسانية.
جلالة المغفور له الملك الحسين رحمه الله، الذي جسد أسمى معاني التواضع والرحمة، لم يتخذ يوماً أي قرار قبل أن يضع نفسه مكان الآخرين. واليوم فإنني أستلهم العبر من زوجي جلالة الملك عبدالله والشعب الأردني الذين إنتهجوا إرث الحسين. إرث لا زال يشكل النهج الإنساني للاردن حتى يومنا هذا.
يستضيف بلدنا الصغير اليوم مليون وأربعمئة ألف سوري، أي ما يعادل 20% من سكان الأردن، وعلى الرغم من أن بلدنا يعاني من الفقر والبطالة، إلا أننا نقدم ما باستطاعتنا، وأنا فخورة جداً بتفاني الأردنيين وإيثارهم.
ولكي يستمر الأطفال السوريون في حصولهم على التعليم وتعويض ما فاتهم، تم ادخالهم إلى مدارسنا، وازدادت ساعات الدوام، وأصبح المعلمون يعملون على نظام دوام الفترتين في اليوم الواحد. ولكي يحظى السوريون بالملاذ الآمن ويتعافوا من ويلات الصراع، رحب الأردنيون بهم في المدن والقرى، وقدموا لهم الدعم المستمر بشتى الطرق. ولضمان توفير الدعم الصحي، ومن خلال التعاون مع الأمم المتحدة، وفرنا لهؤلاء اللاجئين سبل الرعاية الصحية المجانية، بحيث يتمكنون من تلقي العلاج اللازم في مستشفياتنا.
وفيما نحتفل بعيد الأضحى في الأسبوع القادم، سيتشارك من أنعم الله عليهم مع من هم أقل حظاً، وهذه مسألة تتعلق بالرحمة والعطف اتجاه الآخرين، فبغياب التعاطف ينعدم الإحساس بالآخر مما يضعف أسس إنسانيتنا المشتركة.
في العالم الدائم التواصل، تنعدم محلية المكان، والأزمات العالمية التي تعصف يمكن أن تجد طريقها لأبوابنا. ولأي حديث صدى في كل مكان، تبقى المشاعر الانسانية هي الجوهر الأثمن الذي تملكه الأسرة العالمية.
ومع ذلك أخشى انها تفقد قيمتها ويتم إنتقاصها في كثير من المواقف، أحياناً من خلال كلمة هدّامة ومضللة فتداول عنوان، أو هاشتاغ أو قول سيؤثر على طريقة تفكير الناس، سواء أكان ذلك أمراً صحيحاً أم لا !
إليكم هذا المثال: لاجئ أم مهاجر؟
قد تختلط الكلمتين على بعضنا، لكن هناك اختلاف في المعنى، فالمهاجرون يختارون الإنتقال للعديد من الأسباب: بحثاً عن فرص العمل، وسعياً للتعليم ولم الشمل. لكن باستطاعتهم العودة لمنازلهم في ظل حكومة توفر لهم الحماية في أي وقت يشاؤون. أما اللاجئون فهم أناس يهربون من ويلات الحروب والإضطهاد عبر الحدود الدولية. هم لا يملكون سوى خيار النجاة بأرواحهم. لذا يحق لهم، وبحسب القانون الدولي، التمتع بالحماية واللجوء. وتحق لهم العدالة والكرامة.
لكننا عوضاً عن ذلك نرى مشاهد مروعة تفطر القلوب، بحاراً تحمل جثثاً، خيم عشوائية، وقبوراً في الصحراء، وشاحنات تصبح أسرة موت. والصورة الدالة على تلك المأساة، جثث الأطفال على الشاطئ. هم حطام صراع يتعدى فهم طفولتهم. وبدلاً من أن تسود حالة من التعاطف، أطلق البعض العنان لموجة من المصطلحات البشعة لتتصدر أخبارنا. فبينما كانت كلمة لاجئ تثير مشاعر التعاطف والرحمة فور سماعها، بات الناس يعتبرون اللاجئ والمهاجر وجهان لعملة واحدة. وما أن جُرّدت الكلمتان من معناهما الحقيقي، أصبح البعض يطلق عليهم عبارات تحمل نظرة وكأنهم أقل قيمة وإنسانية من غيرهم.
مصطلحات كـ "الغزاة" أو "الدخلاء"، لا بل أسوأ من ذلك. وهنا أستذكر ما كتبه فنان الجداريات البريطاني بانسكي، والذي رسم مرة على أحد الجدران قائلاً "أرى أناساً لكنني لا أرى إنسانية" .
وغير أن هذه المسميات النمطية لا تعكس الأهوال التي يواجهها اللاجئون، لكن هناك أدلة تشير إلى أنها ايضا تؤثر لا اراديا على طريقة تفكيرنا. و هنا يكمن الخطر الحقيقي، فبمرور الوقت، المسميات تنتقص من انسانية الشخص –– ويتسلل الشك والتعصب إلى قلوب الناس، ويتجذر الخوف. كل نظرة جارحة، كل لفظ مسيء، كل تسمية .. جميعها يعرض جوهرنا الأثمن، إنسانيتنا، للخطر.
أيها السيدات والسادة، أن يجد انسانا نفسه عالق في خضم أي حرب، لا يجعله أقل استحقاقاً للعطف الإنساني، بل الأكثر إستحقاقاً له.
إليكم مثال آخر عن التأثير السلبي لخلط المفاهيم ببعضها، وما يصاحبه من عواقب وخيمة: "مسلم" و "متطرف". المسلم يعتنق دين المحبة والسلام، دين الرحمة والتفاهم. أما المتطرف فلا دين له، يملأ الشر قلبه ولا يضع أي اعتبار لقدسية الحياة البشرية.
هذان مفهومان بعيدان كل البعد عن بعضهما البعض، لكن العديد من الناس يستخدمون مصطلحات مثل "متطرف مسلم " أو "إرهابي مسلم" . إنها مسميات تحمل في طياتها تشويهاً لسمعة الملايين من الناس الطيبين والشرفاء في العالم، وتخلق دوامة من الشك وتغيّب الثقة وسوء الفهم. لنتجاوز هذه المسميات وننظر إلى ما هو أعمق من ذلك، لندرك على الفور بأن أوجه التشابه التي تجمعنا هي أكثر بكثير من تلك التي تفرقنا.
انظروا خلف طيات كلمة "مسلم" لتجد ذلك الأب الحاني، وخلف طيات "سني" أو "شيعي" لتجد زوجاً محباً. لنتأمل في اسم "عبدالله الكردي" لنرى رجلاً شجاعاً حاول حماية عائلته وخاض غمار البحر هرباً من الحرب في سوريا، لكن زوجته وأبناءه غرقوا، وجلبت أمواج البحر جثة إيلان ذو الثلاثة أعوام، وشقيقه غالب ذو الخمسة أعوام للشاطئ.
ستظل صورة إيلان محفورة للأبد في ضمير العالم، ولتبقى هنالك. ولنذكر انه بغض النظر عن المكان الذي نأتي منه، وبغض النظر عن طريقة لبسنا، وبغض النظر عن لغتنا وما نؤمن به، نحن في اخر المطاف نتشارك أحلاماً عديدة: الأمن والأمان لأحبتنا، طفولة هانئة لأطفالنا، الشعور بالانجاز وما يحمله من رضى عن النفس. وفكرة أننا لو حلمنا بمستقبل أفضل، وأكثر إزدهارآ، يمكننا تحقيقه.
ولإيجاد حل دائم لهذه الأزمة، دعونا نقتدي بالمغفور له الملك الحسين، ونحاول رؤية الأزمة من منظور أوروبي.
نتفهم أن يعتبر البعض هؤلاء اللاجئين غرباء حلّوا عليهم، من بلدان مختلفة، ولا يفهمون لغتهم، لا يشاركونهم نفس المعتقد الديني. وبالنسبة للبعض يشكل هؤلاء تهديداً لمعتقداتهم وطريقة عيشهم واقتصادات بلدانهم، ويتعدى ذلك أحياناً ليصفهم البعض بالتهديد الأمني. لذلك، قد يتبادر لأذهان بعضهم إغلاق الأبواب في وجوه اللاجئين، ليس من قبيل الكراهية، بل من قبيل الخوف من المجهول.
وهذا ما يوجب علينا العمل معاً وبسرعة. أن نوظف الشعور بالآخرين والشجاعة جنباً إلى جنب مع العمل، فالأمر يتعلق بمساعدة المجتمعات المحلية في فهم ما يسعى اليه اللاجئين: الملاذ والأمن والسلام، وهي ما حُرموا منه في بلدانهم.
اليوم إننا نجد أنفسنا في مواجهة أزمة إستثنائية تتطلب حلولاً إستثنائية. الحلول الجزئية في هذه الحالة لن تجدي نفعاً، لذلك على المجتمع الدولي أن يستثمر الفرصة، إذ يتوجب علينا في أوروبا والشرق الأوسط وبقية العالم أن نضع سياسة متماسكة وشاملة تخدم مصالحنا جميعاً.
إن الأمر لا يتعلق فقط بوجوب قبول الدول إستقبال اللاجئين، أو بأي دول التي يتعين عليها إستقبالهم، إنما هو أمر يتعلق باستجابة جماعية، إستجابة تبدأ بتحديد التدابير التي يمكننا إتخاذها معاً" هل يمكننا على سبيل المثال العمل مع الحكومات، أو مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمات غير الحكومية لتبيان اللاجئين وتعدادهم؟ هل نبحث عن مصادر للدعم، كما تفعل ألمانيا لإيجاد مراكز لإيواء اللاجئين؟ مراكز تعلم اللاجئين اللغة وتوفر تعليماً مدرسياًوتدريباً مهنياً ليستفدوا منه حينما يحين الوقت للعودة الى ديارهم ويلملموا جراحهم؟
وعدم التصرف سيكون فشلاً ذريعاً سيشكك بمصداقية مصطلح "أسرتنا العالمية". إن حرمان اللاجئين من أبسط حقوقهم سينشئ جيلاً يائساً ومقهوراً في أقوى حالات يأسه يمكن إستغلاله من قبل ذوي الفكر المتطرف.
السيدات والسادة، إننا نعيش في زمن الأحداث المضطربة والمربكة فيه سواء كانت الخلاقة أو المدمرة أو التكنولوجية أو الديمغرافية أو الأيديولوجية. بغض النظر عن الشكل الذي تأخذه، تلقي بنا تلك الأحداث خارج الإطار المريح المعتادين عليه. وهناك نشعر بأننا أحياء. هناك نعيد تعريف حدود "ما يمكننا فعله"، وحيث شدة العواطف تمكننا من كسر الأنماط التقليدية للأفكار والسلوكات. وحيث نطلق العنان لإبداعاتنا، ونوسع مداركنا ونفتح قلوبنا. من هناك، لنتخيل جميعاً حلاً مستداماً للأزمة التي نواجهها اليوم، حلاً يعزز مصداقية مصطلح "أسرتنا العالمية".
لذلك أشكرك المستشارة ميركل لقيادتك الملهمة ولشجاعتك، وأتوجه بالشكر للشعبين الأردني والألماني وغيرهم من شعوب العالم ممن مدوا يد العون الإنساني للغرباء المحتاجين.
فعلى الرغم من صعوبة الوضع، إلا أنني آمل أن نستقي العبر من هذه المأساة، وأن تكون فرصة للقيام بالأمر الصائب. لنتخيل أنفسنا مكان بعضنا البعض والخروج بأنفسنا من الإطار الذي يشعرنا بالراحة.
دعونا نجعل ذكرى إيلان: موجة من العطف الإنساني الرقيق الذي يضرب حدودنا وشواطئنا.
مواضيع مختارة
موقع جلالة الملكة رانيا العبدالله الرسمي
هذا الموقع الإلكتروني لا يدعم متصفحات الإنترنت القديمة. الرجاء تحديث متصفح الإنترنت إلى نسخة أحدث من إنترنت إكسبلورر 9
متصفح الإنترنت الذي تستخدمه قديم. لتحسين مستوى الأمان عند تصفح مواقع الإنترنت و مشاهدتها بالشكل الصحيح و بفعالية افضل قم بتحديث متصفح الإنترنت الخاص بك