غزة العدوان، و ذاكرتنا الإنتقائية
كلنا يعرفها، فقد اختزلت الأخبار غزة .. جثثاً تنتظر من يكفنها .. قصص عائلات تأمل في من يرد عنها الأذى ... طرق مغلقة .. وأفواه جائعة .. ومساعدات تتدفق من كل حدب وصوب ... علّها تصل بعد حين لتداوي ثكلى، أو تشبع يتيماً، أو ربما تقي كهلاً برد أنقاض منزله.
لكن ذاكرتنا "الغزية" انتقائية ... تفيض مشاعرنا شجباً وتعاطفاً حين يتفاقم الوضع، وننسى أنّ وضع غزة ... دائم التفاقم! معاناة شعبها لا تتوقف مع انشغالنا عنها .. ولا تكون الفاجعة أكبر لأننا أفقنا في لحظة نخوة الى أن غزة تنادي.
كم منا .. هبّ استجابة لنداء غزة في العام الماضي؟
معظمنا .. معظمنا ... لم يسمع النداء آنذاك.
لم نفكر حينها بالرضع الذين لن تكتب لهم الحياة لأن الكهرباء تنقطع عن حاضناتهم، لأن أمهاتهم لن يجدن سريراً في مستشفى، أو دواء بعد الولادة، أو طبيباً يعالجهن وينصحهن بما قد ينقذ حياة أولادهن.
لم نفكر بالأطفال الذين لن يذهبوا الى المدرسة ... أطفال يعاني نصفهم من فقر الدم .. أطفال لا يصدقون القصص التي نقرؤوها لأولادنا قبل النوم: عن الجري وراء الفراشات، وتسلق الاشجار، عن ملائكة تحرسهم. فأطفال غزة لا ينامون كأطفالنا، لا يلعبون مثل أطفالنا، لا يضحكون كأطفالنا .. لكنهم يريدون الحياة.
نصف مليون من أهل غزة ليسوا لاجئين، لكن مليوناً منهم كذلك ..
نسمعها كثيراً ولا نفكر فيها: مليون لاجيء!... مليون غزيّ مهجر!... مليون نفس بشرية تعتمد على غذاء مؤسسات الأمم المتحدة، ومدارسها، ومعوناتها ...
أن تحيا وتموت في مخيم، أن تعرف أنك لن تغادره أبداً، أن طموحك وأفقك محكوم بجدرانه ... أن حياتك رهن أهواء المحتل، وبقاؤك معلق بمعونة الغير ...هذه غزة ... كل يوم. لا بنية تحتية، لا نفوس مطمئنة، ولا ثقة بالمستقبل.
هذه الصور .. هي صور الأمس، وصور الغد، صور كل يوم في غزة الحصار ... هذا هو الواقع الذي يعيش تحت الأنقاض .. هناك، في غزة العدوان. وإعادة بناء ما هدمته آلة الحرب الاسرائيلية، ومداواة جروح العدوان الأخير ضرورة، لكنها علاج سطحي .. هي عودة الى غزة الحصار، ويجب ألا ننتظر صرخة الألم لنداوي الجرح. فغزة معتلة، والقلب الفلسطيني يئن.
وعلى المجتمع الدولي ان يعمل كي لا تعود غزة اليوم ... الى غزة الحصار...
يجب أن نتحرك لإعادة بناء ما دُمر ... وأن نحاول ترميم الحياة، ومعالجة نفوس الأطفال الذين اعتادت آذانهم الصغيرة أصوات القصف .... إستملكت أجسادهم الهشة رعشة الرعب ... وفقدت عيونهم بريق براءتها لهول ما رأت. أطفال آن لهم أن يعرفوا معنى الطفولة .. آن لهم ان يعيشوا طفولتهم كبقية اطفال العالم.
يجب أن لا نتجاهل ما بعد غزة .. ما أخفته أصوات المدفعية وهدير الطائرات .. وبطش القصف ... أن نداوي جروح غزة هو أن نبحث في أسبابها، أن نحفظ الشرعية الفلسطينية ... أن نؤكد على أن كل طفل وشاب .. وامرأة وشيخ في فلسطين سيعيش تحت رايتها ... سيعرّف بفلسطينيته .. لأنها حقه .... حقه علينا جميعاً.
والطريق الى الراية الفلسطينية فوق أرضها لا تتأتى بأصوات القنابل ولغة السلاح .. بل بالحوار والدبلوماسية، فالعنف دوامة تحيد الجميع عن مساره.
والأمن ليس الوسيلة الى السلام بل الغاية من وراءه، فالمجتمع السلمي هو مجتمع آمن. والسلام في غزة، في فلسطين، يضمن أمن جميع من حولها.
فهبتنا ليست انتقائية، ودواؤنا ليس موضعيا .. والجسد الفلسطيني مسؤوليتنا جميعا
مواضيع مختارة
موقع جلالة الملكة رانيا العبدالله الرسمي
هذا الموقع الإلكتروني لا يدعم متصفحات الإنترنت القديمة. الرجاء تحديث متصفح الإنترنت إلى نسخة أحدث من إنترنت إكسبلورر 9
متصفح الإنترنت الذي تستخدمه قديم. لتحسين مستوى الأمان عند تصفح مواقع الإنترنت و مشاهدتها بالشكل الصحيح و بفعالية افضل قم بتحديث متصفح الإنترنت الخاص بك